إن مقارنة متأنية بين طبيعة الدين وواقع التدين تظهر نتائج خطيرة في طريقة التفكير الديني وآلياته عند البعض واغتصاب تطبيقه لدى بعض آخر، فنحن ندرك حقائق كبيرة في طبيعة الدين:
فالله رحمن رحيم أنزل كتابه هدى ونوراً يهدي للتي هي أقوم في شموليّة رحمة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
والرسول رحمة للعالمين (حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وطاعة الله ورسوله طلباً للحياة (ياايها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم ).
وليس الأمر خاصاً بالمؤمنين؛ بل يتعدى للبشرية والإنسانية كلها بل لكل الكائنات فكان الثناء على الذين (يطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) والأسير لا يكون مسلماً.
وندرك أن الإسلام يسر لا عسر فيه بل هو يتحدى العسر والمشقة (إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً) وفي الحديث "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، واليسر إرادة إلهيّة (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (وما جعل عليكم في الدين من حرج).
والرخصة يسر " والله يحب أن تؤتى رخصه" فالتشريع كله قائم على التيسير، ورفع الحرج وغاية الرسالة وعلتها الرحمة.
وأما التدين فالله يقول: (إن الدين عند الله الإسلام)، والإسلام هو الدين المقبول (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)، والدين ليس هو دين المشيخة والمدرسة والمنهج بل هو دين الله (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) والهدى (هدى الله).
فالإسلام أوسع من التديّن؛ فقد تتديّن بشيء تجتهد فيه لا يلزم صوابه ولا تلزم به غيرك، ويتدين غيرك بفهم آخر فكلاكما مسلم.
هذه هي طبيعة الدين الإسلامي، وهذا شكل العلاقة الصحيحة بين التدين والإسلام.
أما واقع التديّن فقد كان في مرحلة عصر التنـزيل؛ فقد كان انسجاماً رائعاً بين الفهم والتأويل من جهة وبين الدعوة والتطبيق من جهة أخرى؛ فحينما يصدر الأمر النبوي للرجلين " لا يصلينّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة"؛ فيصلي أحدهما العصر في وقتها قبل أن يصِل، ويصلي الآخر العصر في بني قريظة بعد وقتها، كلاهما مطيع مستجيب، وفي وقائع أخرى كثيرة، فالقوم قد فهموا الرحمة واسعة والهدى شاملاً، وللحق أوجه والصواب موزع والحكمة ضالة المؤمن.. ثم بدأ الفهم والتأوّل يتراجع ونشأت المدارس، وتعدّدت ولم يكن الإشكال في تعدّديتها، ولكن الإشكال وقع حين ضاقت الأعطان عن احتمال الغير مع تعصّب مقيت للذات، وبدأت الحروب الفقهية التي احتفظ التاريخ بمخرجاتها من الردود العنيفة والتراشقات السفيهة، زادت الطين بلة؛ تدخل سياسي غير مباشر وغير حميد، صياغة العلوم وتصنيفها والإلزام بها عبر دوائر الإفتاء والقضاء بل وفي الأكاديميّات التي يُفترض فيها التعدّد والاحترام.
أنتج كل ذلك حالات من التديّن ربما تعدّدت في مظاهرها، ولكنها اتّحدت في تحدي الإسلام الحق عبر تشددها "ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه"، ورأت التديّنات أنها تمتلك الحق والحق المطلق ونعتت نفسها بـ"الموقعين عن رب العالمين" مما يُضفي عليها قداسة ترفعها فوق مستوى النقد والمراجع، وجعلت من ذلك أيديولوجيّة لا تتغير ولا تتحرك، واستمرت على ذلك وهي في كل حين تصطدم بسنن الحياة والكون المبنية حركتهما على اليسر والتيسير.
موضوع منقول.