هناك كثير من القضايا والأفكار هي في ذاتها نبيلة وسامية، تغري الإنسان الباحث عن الحقيقة، وتستميل قلبه، وتخلب لبه، وتعطل تبصره. . مع ما يواجهه من ضغوط المجتمع الجاهل والسياسة الفاسدة، دون أن يفكر فيها ضمن سياقها مقرونة بقائلها وبمكانها التي نشأت فيه، وما الظروف التي دعت لنشوئها وتبلورها بالصورة المطروحة الملاقاة في دروب الحياة، وما وظيفتها الفردية والاجتماعية وما طبيعة المجتمعات التي آمنت بها ودعت إليها. . .
إن كثيرًا من القضايا المطروحة على الساحة اليوم، لم يكن لها من القوة لتنفذ إلى عقل المجتمع لولا أننا قد أصبنا بالكسل العقلي والخمول النفسي، فأصبحنا نحب أن نأخذ الأفكار جاهزة معلبة لنتداولها فيما بيننا معتقدين بها أو مثيرين شغبًا عارمًا لا ينتهي لأنها ستكون باب أمل تنفذ منه رغائبنا كما نفخ فيها إبليس كعادة المجتمعات المشغولة بأنفسها عن حقيقة عدوها، وما يخطط له وهذه إحدى بلايا الضعف ومخلفات الهزيمة. .!
فالحرية ـ على سبيل المثال ـ فكرة سامية عند النظر إليها مجردة، وما من عقل نظيف إلا وهو يتمناها ليحقق بها وجوده الحافل، ولكن الحرية المطروحة في الصحف وفي أفكار كتابنا ـ عفا الله عنهم ـ ليست هي الحرية النظيفة النزيهة المبنية على الأصول العقلية البشرية الصريحة، ولا على الحقائق الاجتماعية المقررة ولا على القواعد الدينية الصحيحة، وإنما هي حرية الغرب التي نشأت عبر تطورات فكرية وحروب عقائدية وتغيرات اجتماعية، تلك الحرية التي قال فيها رينيه هويغ: ". . إن الحرية التي يطالب بها معاصرونا هي بوجه خاص حرية الانعتاق من القواعد القانونية وكذلك من القواعد الأخلاقية، وسرعان ما تقتصر على ألا تكون سوى حرية الرضوخ لاندفاعاتنا، أعني لحتمياتنا وتغدو الحرية إباحة"، وتلك التغيرات التي نحت بالغرب هذا المنحى لم تحصل في مجتمعاتنا الإسلامية؛ لأن الإسلام كفل للإنسان حقوقه المقررة على أتم وجه، وطالبه بفعل ما عليه من واجبات راقية تنفعه في الدنيا والآخرة، وربط حريته وحقوقه بفعلها، ليكون الإنسان المسلم في مجتمعه إنسانـًا ذا مبدأ نافع لنفسه ولمجتمعه ولأمته وللبشرية كلها. .
إن أخذ أمثال هذه الأفكار، ومحاولة التلبس بها، من غير فحصها وفحص المجتمعات التي نشأت فيها ومعرفة أسباب نشوئها ومبلغ فهم المفكرين لها، سذاجة عقلية لا يؤمن بها إلا الهمجي الذي أقام حياته على الاتكال على غيره والانغماس في ترف الجسد. .!
والمشكلة تزداد سوءًا عندما يلبس لهذه الأفكار لبوس الحرب أناس كانوا رموز خير وصلاح، ومفاتيح نور وكفاح؛ لأنهم يعتقدون أن المجتمعات يجب أن تقاد بقوة الكلمة وشجاعة النفس وجرأة القلب، لا أن تفكر وتقدر وتختار خياراتها الصحيحة بنفسها، ومن ثم انطلقوا في فضاءات مهجورة وحلقوا في سماء صافية إلا من رجومها، وابتدعوا أقوالا متساوقة مع الحق؛ لأنها لا تصادم الأدلة الخاصة وإن انتهكت حرمة القواعد ومزقت قداسة الأصول فجعلوا يقولون بأن هذه المسالة لا دليل عليها، فما المانع من إباحتها وما المحرم للتمتع بها، سيما ونحن في محيط دولي ينظر إلينا نظرة التخلف ويعتقد أننا مجرد فكرة ناشزة جاءت للحياة لتعطيها القوة بمحاربتها، ونسوا أن الضعيف لا يملك خياره ولا يستطيع أن يهب لأنه لا يجد ما يملك. . إنهم يتناسون ـ عفا الله عنهم ـ أن للزمن أقوالاً غير أقوالهم، ونتائج غير نتائجهم، ولا يملكون إلا الكلمة تكون مفتاحًا لباب ينفذ إلى الجحيم وتأويلات الجحيم، وما كان عملهم كله إلا كعمل من ظن أن قانون السقوط هو الوجه الآخر لقانون الارتفاع، فأخذ نفسه من مجامعها وصعد بها على سطح بيته وقال: لا بأس بالمحاولة؛ إذ لا دليل على المنع فمد يديه إلى السماء ونفخ صدره بالهواء وقفز قفزته الملائكية، فما هو إلا أن أحس بشعور خارج عن الجسد وبقعقعات ترن في مسمعيه وبالظلام ينتشر رويدًا لينسخ لمعة النور في حياته!
إن صواب إبليس في نصيحته لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ لم يحوله إلى رسول كريم يعطر الحياة بنوافح الجحيم، وهو كتلة من الخطأ الأحمر.
إن المسلم يجب أن ينظر إلى أبعد من أرنبة أنفه ـ إن وجد لأنفه أرنبة ـ، فيقف فوق حافة الزمن لينظر إلى التاريخ وما فيه من أحداث، وكيف بدأت هذه الأحداث، وكيف كانت نية أصحابها، وما كلماتهم التي فتحوا بها باب الفساد من جهة الإصلاح، وما الفراغ الذي تركوه فأكمله الزمن بأسباب غير أسبابهم، وفرض عليه عوامل غير عواملهم، وترك البقية لحماقة الإنسان وظنون الإنسان لتكمل النهاية المأساوية. .
ولنضرب لك ـ أيها القارئ الكريم ـ مثالاً من التاريخ يشهد لما قدمنا بين يدي فكرك، فإن واقعة صفين بين علي ـ رضي الله عنه ـ ومن معه من أهل العراق وبين معاوية ـ رضي الله عنه ـ ومن معه من أهل الشام فيها من العبر والفوائد ما لو جمع لخرج في مجلد كبير، والشاهد منها على حديثنا: أن القتل لما وقع في أهل الشام وكاد علي ـ رضي الله عنه ـ ومن معه ينتصرون وتحسم المسألة لهم، تدخل عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بفكرة تبدو في ظاهرها لمن يحمل في قلبه آثارة من إيمان صائبة واضحة، ألا وهي تحكيم القرآن فيما بينهم، فقال لمعاوية: إني قد رأيت أمراً لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك بَرَدَ القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب ريحهم.
فحصل ما يسمى بمسألة التحكيم، تلك المسألة التي كان من عواقبها وعقابيلها خروج الخوارج في قوة عسكرية وازدياد الفرقة بين المسلمين. . ففكرة تحكيم القرآن فكرة بمجردها فكرة طيبة، ذات طابع إيماني، والنصوص تدل عليها وتحذر من مخالفتها، ولكن عند النظر في الظروف والملابسات والقرائن وطبيعة المكان والزمان الذي نشأت فيه وطبيعة قائلها، يتبين للناظر أن الهدف منها هو وقف القتل المستعر في معسكر أرباب هذه الفكرة، وإعطاء الفرصة في ترتيب أحوالهم، وإيقاع الفرقة في معسكر الخصم، ولم يكن الهدف الأساس عند قائلها الوصول إلى حل نهائي يفصل في الأزمة ويعيد الأمة إلى جادتها، بدليل ما أعقب ذلك من إفشال للتحكيم ومخادعة في آلياته. . عفا الله عن الجميع.
وفي الصحيح، من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير: فقالا: إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب رسول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما يمنعك من الخروج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}؟، فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله.
وإذا فهم أصحاب هدف سام، ومعهم الحجة الموسوية التي تلقف ما يأفك غيرهم، وبين يديهم الدليل الذي يتحيف الظلام من أطرافه كما تتحيف شمس الصباح هيادب الليل، ولا مناص عندهم من نصرة الحق ووضع الصواب في موضعه اللائق به من الحياة، ولو كان الثمن دماء المسلمين الطاهرة، ولكن كل ذلك لا قيمة له عند المؤمن العالم بربه، المتبصر بشؤون دينه، الذي يظن الظن فيقع من غيره موقع اليقين البارد. جاءت كلمات ابن عمر تحمل النور للقلوب الدامسة، والحق للأنفس المشاكسة، والحقيقة للوجود المختل، فكانت عقلاً ناطقـًا وأثراً من آثار رحمة الله في عباده المخلصين، وحقيق بكل مسلم أن يتدبر واقعه، ويتأنى عند إصدار أحكامه وإبراز آرائه، وتوعيز معانيه حتى لا يأتي زمان ينبش قبره، وينشر تاريخه وتصلب أفكاره ويكون سبة الدهر.